كانت فكرة صغير مثل كل الأفكار، لكن حينما لامست طموح الأمير الشاب فيصل بن عبدالعزيز نائب الملك في الحجاز – آنذاك – وأراد لها أن تكون حقيقة يشع منها العلم إلى أرجاء البلاد دعمها برؤيته واهتمامه ووقته فكانت (المدرسة النموذجية بالطائف) التي تأسست عام (1366ه) واشرف على إنجازها بكل ما تحمله من برامج منهجية ولا منهجية تغدق على طلابها العلم النافع والفكر المستنير والمستقبل الباسم، كانت هذه المدرسة أولى طلاع التعليم الحديث والمُمنهج وما إن نقلت رحالها إلى جدة وأضحى اسمها (مدارس الثغر النموذجية) حتى فتح لها أفقاً واسعاً وازداد حضورها في الأوساط التعليمية وكثر الراغبين في الانضمام إليها فكانت ملاذاً للمميزين والمتفوقين الذين كانت لهم بصمات واضحة بعد تخرجهم منها فشاركوا في صناعة التنمية وبناء مستقبل المملكة.
واليوم يصدر الباحث والكاتب مشعل الحارثي سفراً خاصاً عنها يتقصى فيه تاريخ هذه المدرسة مذ كانت مبنى صغيراً في أحد أحياء الطائف، حتى غدت مصنعاً للرجال الذين أعدتهم هذه المدرسة ليسهموا في صناعة حضارة بلادنا في شتى الحقول والمجالات، وذلك من خلال الصحف والمدونات وما استطاع أن يقتطفه من أحاديث من عملوا بها.
ثقافة الرياض رأت أن تلقي الضوء على هذا المعلم العلمي العريق وتاريخه المشرق ودوره المشرف فكان هذا الحوار مع المؤلف الأستاذ مشعل الحارثي.
المنهج التعليمي المصري ومنهجنا التعليمي وسعا من نطاق التميز عند طلابنا
- كيف استطعت الحصول على كل هذه المعلومات والصور ووفرت معها التدقيق في البحث لمدرسة مضى على إنشائها أكثر من (60) عاماً رغم رحيل كثير ممن عملوا بها وممن تخرجوا منها كذلك وقلة المراجع من صحف ودوريات وكتب؟
- تعود فكرة اصدار هذا الكتاب إلى أكثر من (30) عاماً مضت وخلال فترة دراستي للمرحلة الجامعية بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة وكنت في طريق ذهابي للجامعة كل يوم امر بالقرب من هذه المدرسة وياسرني منظر طلابها في الصباح الباكر وهم في تلك الصفوف المنتظمة بزيهم الموحد وأمام تلك المساحات الكبيرة والشاسعة للمدرسة فاشعر بالفخر والاعتزاز بوجود مثل هذه المنشأة التعليمية المميزة إلا أنني وللأسف لم أستطع في تلك الفترة أن أقتحم أسوارها لأتعرف على حقيقة هذه المدرسة وما يدور فيها من جهد وعطاء وحسن أداء مخالف لما عهدناه في بقية المدارس الأخرى, ويريد الله أن أجد نفسي في عام 1408ه داخل هذا الصرح التعليمي الكبير مدارس الثغر النموذجية لأعمل بها رسمياً بعد نقل عملي من الرياض إلى جدة، ومنذ أول يوم لي بهذه المدرسة أخذت أبحث وأسأل عن تاريخها وماضيها وعن وجود كتاب أو كتيبات أو نشرات تؤرخ لنشأتها وتعرف بمنجزاتها وعطائها طوال هذه السنين وكانت الصدمة إنه لا يوجد شيء من ذلك سوى معلومات وجيزة جداً لا تتجاوز الصفحتين فقط الأمر الذي حرضني منذ ذلك الوقت للبدء في رحلة الألف ميل كما يقال أو من نقطة الصفر للتنقيب عن تاريخ هذه المدرسة من خلال من عملوا بها أو من طلابها القدامى أو من العاملين بالقسم الإداري بالمدرسة سواء في مرحلة التأسيس والانطلاقة من الطائف أو في المرحلة الثانية بجدة، إلى جانب زياراتي المتوالية لمكتبة الحرم المكي ومكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، ومع الوقت وجدت أن الحصيلة تكبر يوماً بعد آخر حتى جاء الوقت المناسب لإخراجها بفضل من الله وتوفيقه في كتاب توثيقي تاريخي بعد أن أخذ مني هذا العمل لاستكمال تجميع مواده ومعلوماته وصوره ما يزيد على (15) عاماً وذلك لوفاة عدد كبير ممن عاصروا المدرسة في بداياتها الأولى ماعدا قلة منهم لازالوا على قيد الحياة وكانوا هم الأساس في ذلك، إضافة لقلة المعلومات وتداخلها وتضاربها في أحيان كثيرة وهو ما تطلب مني التريث والتدقيق والسؤال من أكثر من مصدر لتوثيق المعلومة وتصحيحها وليكون بذلك الكتاب الأول والوحيد عن المدرسة النموذجية.
- ما أسباب اختيار الملك فيصل رحمه الله مدينة الطائف تحديداً لينشئ المدرسة النموذجية؟ ولماذا استقرت بعد ذلك في جدة؟
- أنشأ الأمير فيصل بن عبدالعزيز (الملك فيما بعد) المدرسة النموذجية بالطائف عام (1366ه) وكان آنذاك يشغل منصب نائب جلالة الملك على الحجاز وكان مقر النيابة بمكة المكرمة وقد حرص الملك فيصل رحمه الله أن يظل أبناؤه بجواره وتحت أنظاره ليتابع تربيتهم وتعليمهم فاختار الطائف لقربها من مكة مقر عمله ولكون الحكومة تنتقل في كل صيف للطائف وتمكث بها عدة شهور، وقد أولى الملك فيصل هذه الغرسة الكريمة (المدرسة النموذجية) منذ إنشائها كل عنايته واهتمامه لتؤدي دورها كاملاً وكما خطط لها, وعندما زادت أعباء الأمير فيصل وتعيينه وزيراً للخارجية وكثرة تنقلاته المستمرة إلى جدة حيث تواجد السفارات والسفراء والممثليات الدبلوماسية قرر أن ينقل المدرسة إلى جدة بعد أن وفر لها كل مقومات النجاح والتميز من المباني الحديثة والفسيحة والمرافق المتكاملة التي لم تتوفر لأي مدرسة أخرى بالمملكة وقبل ذلك الكادر التعليمي والإداري المميز، فكان انتقالها إلى جدة في عام (1380ه) لتبدأ مرحلة جديدة في مسيرتها إلا أنها لم تتخل عن النهج والأسس التي ارساها ووضعها لها مؤسسها وراعيها جلالة الملك فيصل رحمه الله لتكون إحدى منارات الاشعاع التربوي والتعليمي الفريدة والحديثة آنذاك في المملكة العربية السعودية وليؤكد رحمه الله على أن قاطرة التطوير والتحديث يجب ان تستمر دوماً نحو الأفضل والأحسن وبما يتلاءم مع طبيعة المكان والزمان.
- هل كان هناك معيار للانضمام إلى هذه المدرسة؟ أم أنها كانت لأبناء صفوة المجتمع؟
- أوضحت في كتابي أن جلالة الملك فيصل رحمه الله أكد في كثير من خطبه وكلماته عند زياراته للمدرسة بأنها أنشئت لخدمة أبناء البلاد وقال بالنص (هذه المدرسة لم تنشا لطبقة من الناس وإنما أنشئت لتفتح أبوابها لكل راغب فيها) فلم يكن الالتحاق بالمدرسة يحتاج إلى واسطة أو كانت مخصصة لعلية القوم فقط، فقد قبلت المدرسة في أعوامها الاولى عدداً من أبناء الجاليات المقيمة بالطائف إلى جانب الأمراء وأبناء علية القوم من الطائف ومكة والرياض وغيرها من المدن الأخرى، وكان معيار الالتحاق بها خضوع المتقدمين لها من الطلاب لاختبار ومقابلة من خلال لجنة برئاسة مدير المدرسة وعدد من المدرسين، وكانت هذه اللجنة في مرحلة انتقالها لجدة بإشراف من معالي الشيخ محمد النويصر رئيس الديوان الملكي الأسبق وكان الهدف هو التأكد من مدى أهلية الطالب للالتحاق بالمدرسة وقياس مستواه واستعداده لتحقيق أهدافها وبرامجها والانسجام مع متطلباتها، كما وضعت المدرسة أيضاً نظاماً صارماً للمحافظة على تميزها ومكانتها إذ الزمت كل من يفشل في أداء امتحاناتها السنوية أن يغادر المدرسة ولا يقبل بها للعام الذي يليه وكان هذا الأسلوب من الأساليب المحفزة للطلاب على بذل أقصى الجهود حتى لا يصلون لهذه المرحلة إلى جانب الاستفادة من جملة المزايا المقدمة لهم والتي لا توجد في أي مدرسة أخرى مثل تقديم وجبة الغداء من خلال مطعم المدرسة وتطبيق اليوم الدراسي الكامل، وتقديم المواصلات المجانية، وخدمات القسم الداخلي للراغبين به، وبرامج الرحلات والأنشطة المتعددة التي لم تكن موجودة في أي مدرسة أخرى آنذاك، بمعنى أنها كانت بيئة جاذبة لا طاردة.
- لماذا استعانت المدرسة بالمنهج التعليمي المصري رغم وجود منهج سعودي يدرس في البلاد في كافة المدارس؟
- في عام (1366ه) وهو عام تأسيس المدرسة كان التعليم آنذاك لايزال بدائياً وتقليدياً، وكان الملك فيصل رحمه الله صاحب رؤية ثاقبة واستشراف بعيد المدى وأراد أن يقدم من خلال انشاء هذه المدرسة النموذج التعليمي التربوي المميز وما يجب أن تكون عليه منطلقات التعليم الحديث ولكن بسمة وطابع محلي يستمد مقوماته من مقومات الدين الاسلامي وقيم المجتمع السعودي وبخلاف شقيقتها المجاورة لها بالطائف (مدرسة دار التوحيد) التي أنشاها الملك عبدالعزيز عام (1364ه) والتي تهتم بتعليم العلوم الشرعية واللغة العربية فقط بينما المدرسة النموذجية كانت تركز في مناهجها على المناهج العلمية والعامة (علوم فيزياء كيمياء لغات أجنبية جغرافيا تاريخ… ألخ) ونظراً لعدم وجود الكادر التدريسي المتخصص في هذه العلوم فلم يكن أمام إدارة المدرسة سوى الاستفادة من أصحاب الخبرات المميزة في هذا الجانب من الخارج فتم التعاقد مع نخبة من المعلمين من مصر وتم اختيارهم بعناية فائقة واهتمام وأشراف مباشر من الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وتم تطبيق منهج مدرسة النقراشي باشا والتي كانت من أقوى المدارس المصرية وكانت مخصصة للنخبة آنذاك، كما تم إضافة عدد من المواد إلى هذا المنهج مثل مادة القرآن والتوحيد والفقه والحديث، إلا أنه بعد إنشاء وزارة المعارف عام (1373ه) ألغي المنهج المصري وأصبحت المدرسة تلتزم بمنهج الوزارة بل أضافت إليه العديد من المناهج لتحقق التميز وتوسيع نطاق المناشط اللامنهجية.
ومع ذلك فالمدرسة أيضاً ومنذ عامها الأول كانت تضم إلى جانب الهيئة التدريسية المصرية نخبة مميزة ومختارة بعناية من المدرسين السعوديين.
- ألا ترى أن نقل المدرسة إلى جدة فتح لها أفقاً أوسع وحضوراً أكبر ووسع من دائرة اهتماماتها وسهل لها التواصل مع كافة القطاعات؟
- هذا أمر صحيح وكما أشرت سابقاً أن إنشائها في الطائف كان لظروف معينة ونقلها إلى جدة كان لظروف أخرى ولذلك كان وجودها في جدة بشكل مختلف ورؤية مختلفة فلم تغب عن الأمير فيصل رحمه الله ما تتمتع به جدة من وهج وحركة تجارية واقتصادية كبيرة وكونها بوابة للحرمين الشريفين وممر لوصول كبار ضيوف الدولة والزوار فقرر أن تكون المدرسة بحجم تطلعاته ورؤيته المبيته لها ونظرته المسبقة لمستقبلها وفي أن تكون على أرقى المستويات وليطلع العالم على هذا النموذج المتميز من التعليم فكانت مقصداً لزيارة كبار رؤساء العالم وذوي العلاقة بالشؤون التعليمية والتربوية، حتى أن اسمها تم تعديله من (مدرسة الطائف النموذجية) إلى (مدارس الثغر النموذجية) ليواكب المرحلة الجديدة وكونها تطل على العالم من ثغر جدة الباسم بالحيوية والنشاط والعمل.
بل كانت إدارة تعليم جدة ومدارسها تستفيد من إمكانيات مدارس الثغر النموذجية من ملاعبها الرياضية المتعددة، ومن مسرحها الكبير الذي كان يقام به العشرات من الأنشطة الثقافية والمحاضرات والأمسيات الشعرية لكبار الأدباء والمفكرين فكانت هي النادي الأدبي بجدة قبل قيام وتأسيس نادي جدة الأدبي الثقافي، وكانت الشؤون الصحية بجدة أيضاً تستفيد من معاملها ومختبراتها العلمية المتميزة.
- بعد هذه الجهود الكبيرة التي قدمت إلى مدارس الثغر النموذجية من كفاءات عالية في التعليم والإدارة ومبان مجهزة بكافة وسائل التعليم، ماذا قدمت هذه المدرسة للمجتمع من أبنائها الخريجين؟
- يتمثل هذا الأمر فيما أرسلته هذه المدارس من تجارب وأفكار وبرامج تربوية وتعليمية ناجحة سبقت بها قيام وزارة المعارف، وما غرسته في نفوس أبنائها وخريجيها من قيم ومبادئ وحرص وإصرار على التميز والعمل والجد والاجتهاد الدائم للوصول إلى أفضل المستويات العلمية والعملية وهو ما تحقق فعلاً في النخب المميزة التي تخرجت من طلابها من أصحاب السمو الأمراء، ومجموعة من صفوة المتعلمين، والتي اصبحت تتقلد الآن أعلى المناصب القيادية في كل ميدان سواء على مستوى الدولة أو القطاع الخاص.
المصدر : جريدة الرياض