من بريدة إلى الرياض بسيارة “لوري”
بقلم: عبدالعزيز قاسم
مقتطف من كتاب “سليمان وعبدالعزيز القاسم.. قصة كفاح وملحمة إخاء”، في أدب السيرة.
يَمضي بكلِّ الخوفِ والتَّرَقُّبِ والحَياء، مُتعثِّرًا في خَطوِه وهو يَتَّجِهُ إلى سوق “الْجْرِدِهْ” في قلبِ بريدةَ، يَتبَعُهُ أخوه عبدالعزيزُ الذي يَصغُرهُ بِعامَين، كان في الثانيةِ والعِشرينَ من عُمرهِ آنذاك، يَحمِلُ كلٌّ منهما “بَقْشَةً” وضَعا فيها بعضَ مُتعلِّقاتهما في ذلكَ الصَّباحِ الخريفي من عام 1365 هـ – 1945 م.
ما زالَ التوترُ والالتفاتُ -بِخَوفٍ وتوجُّسٍ- يَسودانِ على سليمان القاسم، الذي لم يكد يستقرُّ في سيارةِ “اللُّوري” الخَشبِ تلك، وقد سَمِعَ نداءَ سائقِها يَجلجلُ في ذلكَ السوقِ العَتيق: “الرِّيَاااااض.. اللي يِبي الرِّياض”، حتى تَنفَّسَ الصُّعداءَ؛ إذ خشيَ أن يراهُ التاجرُ “الحِصان” المستدِينُ منه، فيمنعَهُ من الإقدامِ على مغامرةِ حياته وأخيهِ بالرَّحيل إلى “العارِض”، التي أسمعت منطقةَ نجدٍ كلَّها نَهضتها الاقتصاديةَ الجديدة، ما جعلها كعبةً لِقاصديها من الذين أتوها مُقفِرينَ إلَّا من أحلامِهم بالكَسبِ والثَّراء.
تتَهادَى بهم السيارةُ الوحيدةُ التي تَذهبُ بالمسافرينَ إلى الرياض، فلم تكن إلا عربةَ ركابٍ واحدةً في اليوم تَمضي بتلك الأزمنةِ البعيدةِ من المدينةِ الوادعةِ حاضرةِ القصيم، التي تقطعُ الطريقَ في ستةِ أيامٍ كي تصلَ إلى العاصمةِ المتوثِّبةِ للمملكةِ الفتيةِ التي اكتملت قبلَ أربعةَ عشرَ عامًا فقط. يَحدِّقُ سليمان في أخيه الأصغرِ الممتلئِ عَزيمةً ونشاطًا وتحدِّيًا، ويَشرئبُّ بعُنقهِ إلى السماءِ يسألُ اللهَ تعالى العونَ في قادمِ أيامِهما، التي لا يدريانِ ما الذي يَخبئهُ لهما القدر، وأيَّةَ حياةٍ تَنتظرُهما هناكَ في مدينةِ الحُلم!
السائقُ يُغذُّ بسيارتهِ التي تُشوِّشُ بهديرِ محركاتِها صمتَ تلكَ الصحراءِ القاحلة، ويَسرحُ سليمانُ بخيالِهِ بعيدًا، إلى خَبِّ “رُواق” حيثُ وُلدَ ونشأ، ويَسطعُ أمامَهُ وجهُ والدِهِ الوَقور عبدالله الذي كان أميرَها، وتَبتسمُ بِرضا وحَدبٍ والدتُهُ العظيمةُ هيلةُ اللاحم، التي دعمتْ فكرةَ رحيلِ ابنَيها لطلبِ الرزق، وشدَّت من عزمِهما. ويجوسُ بخيالِهِ بعيدًا إلى طفولتِهِ، حيث المسجدِ الجنوبيِّ من “رُواق”، فيرى ذلكَ الطفلَ ذا الخمسِ سنوات متربعًا أمامَ معلِّمه عبدالله البَطِّي، يَقرأ بكلِّ الثِّقةِ والنُّبوغِ القرآنَ الكريمَ بالنَّظر.
تَرتسمُ ملامحُ زهوٍ على وجهه بَدَّدت بعضَ قلقِه، ليعودَ بخيالِه وهو يَنظرُ إلى نفسِه في تلك السِّنِّ الصغيرةِ متباهيًا، إذ تَجاوز أقرانَه، ووَضعَهُ شيخُهُ في المجموعةِ المُتفوقة. وتنتقلُ الصورةُ مباشرةً من “رُوَاق” إلى مسجدِ “الحميدي” بـ”وِسْعَة” بريدة، فيرى شيخَهُ محمد الصالح المطوَّع يفعلُ ذاتَ الأمرِ معه، وقد تفرَّس فيه أن يكونَ من طلابِ العلمِ المتميِّزين، إذ آتاه اللهُ إقبالًا وذكاءً فطريًّا واستيعابًا وحبًّا للعلومِ الشرعية، ما جعلهُ كذلك يتقدَّم عند الشيخِ صالح الوهيبي، ليتقنَ الحسابَ والكتابةَ عنده، ويكملَ حفظَ القرآنِ الكريمِ في ذلكَ الوقتِ الذي كان عزيزًا على أحدٍ من أسنانهِ أن يَختمَ المصحفَ إلا من القلة. ويواصلُ سليمانُ ذلكَ التحصيلَ الشرعيَّ، ويدرسُ متونَ كتبٍ فقهيةٍ والأصولَ الثلاثةَ على أيدي مشايخِ بريدة، ما أهَّلَهُ لأن يُلقيَ الدروسَ والمواعظَ في المساجد.
أطلقَ آهةً حَرَّى اعتملتْ في صدرِه وهو سادرٌ في تلك الذكريات، فما زالت بقايا ما عاشه صباحَ اليوم من خوفٍ، وما يَهمُّه حيالَ ما ينتظرُه بالرياض؛ تُطوِّحان بنفسيتهِ المرهفةِ وقلبِه الرقيقِ، وهو البَكَّاءُ إنْ قرأ القرآن، سريعُ الدمعةِ إن سمعَ الموعظة. يُرسلُ بصرَه بين ركابِ السيارة الذين يتململونَ تارةً -وقد حُشروا في “صَنْدَقة” ذلك “اللوري”- ويتقافزونَ أخرى بذلك الطريقِ الترابيِّ المُمهَّد ببدائية، بينما الغبارُ يتصاعدُ في ذلكم الفضاءِ الهادئِ بفعلِ احتكاكِ عجلاتِ السيارةِ بالأرض.
نقَّل بصره بين ركاب السيارة، التي بدأت تأخذ مكان الإبل في السفر منذ سنوات قليلة فقط، وميَّز أكثريتهم، إذ كانت بريدة في ذلك الوقت بلدة صغيرة، وأهلها يعرفون بعضهم بعضًا، ليُشيح برأسه إلى جهة الطريق، الذي لا يرى فيه سوى صُفرة رمالٍ باهتة تمتد إلى ما لا نهاية وتتقاطع في الأفق مع السماء الخريفية الشاحبة، وهو -وبقية الركب- في تلك “الحمًالية” البائسة التي تمخر هذه الصحراء.
يتمتم بآيات القرآن الكريم التي يحفظها، ويجوسُ أخرى في ذكرياته، لكنه هنا لم يذهب بعيدًا، بل في أيامه الفارطات القلائل التي أغلق فيها دكانه بسوق بريدة نهائيًا، بعد أن خسر فيه ما استثمره وأخوه الأصغر. ذلك الدكان الذي حثتهما والدتهما ودعمتهما على فتحه، ولم تدر تلك الأم العظيمة أن خِلَال ولدها سليمان وخصاله من التسامح وطيبة القلب وسخاء النفس، ليست مطلوبة كثيرًا لمن يمتهن البيع بالآجل، وهو غالب طريقة البيع يومئذ، ما جعله يخسر، وقتما تخلف أغلب الدائنين “الطِرْقِية” عن سداد ما يشترون، وبعض قراباتهم كذلك، فقرَّر هو وأخوه إغلاق الدكان، والرحيل نحو الرياض.
توقَّفت السيارة العتيقة التي تصاعد دخانُ محركها، مُعلنةً إضرابها عن العمل، فما راج من السيارات وقتذاك بالمنطقة هي من مخلفات الحرب العالمية الثانية كثيرةُ العَطَب، فانصرف السائقُ الساخط لإصلاحها، وفرح المسافرون بالخروج من ذلك القبر الخشبي المفتوح الذي حُشِروا فيه.
افترش سليمان الأرض، وطلب من أخيه أن يُخرج طعامهما من “البِقْشَة”، ولم تكد عيناه تقعان على “القُرصَان” الذي أعدَّته له زوجه هيلة الصبيحي، التي خلَّفها هناك، إذ كانت أسرتها رافضة أن تذهب ابنتهم -ككثيرٍ من أُسَر القصيم- إلى المجهول، حتى ترقرقت دمعاتٌ عزيزاتٌ على وجنتيه. وما أصعبَ تلك اللآلئ المتهاملات من أعين الرجال!
تذكَّر سليمان تلك الزوجَ الصبور وهي تطلب منه بحياء “خَرْجِية” لابنتهما الرضيعة التي كانت تحبو أمامه بثياب مهترئة، إذ كانت تلك الثياب الوحيدة التي تملكها، فأعرض عن طلب زوجه لقلة ما لديه من مال، وانصرف عنهما -ووالدته هيلة- مفوضًا أمرهما إلى الله، وحامدًا على الحال الذي وصل إليه. فقد كان والده قد أوقف قبل أن يموت نصف مُلك “رُوَاق” لله تعالى مع أخيه حمد، الذي ناصفهم الجزء المتبقي، وهم الأسرة الكبيرة؛ فلم يأته وأخاه من الإرث إلا القليل، فالمزرعة تشبع البطن لكنها لا توفِّر المال.
اتَّفق سليمان مع أخيه الصغير ألَّا يذهبا إلى “حَلَّة القصمان”، ذلك الحي الجديد في الرياض، كما كان مُعتادًا لكل أبناء إقليم القصيم أن يقصدوه حيث عَزوتهم وجماعتهم، وقرَّرا الانفراد بما فعل بعض “بلديَّاتهما” بعيدًا عن تلك الحلة الشهيرة التي خَطَّت اسمها في تاريخ أسر القصيم في العاصمة الناشئة.
ما إن لاحت مباني الطين القديمة التي ظهرت خلفها عدة مبانٍ حديثة متباينة الشكل، حتى عرف المسافرون بوصولهم إلى مدينة الرياض. بيد أن الأخوين سليمان وعبدالعزيز انقلب حالهما بمجرد رؤيتهما المدينة، فقد تغلغلت نسائم الطمأنينة في نفسيهما، وأشرق وجهاهما المغبَّران من السفر، وتحول ذلك القلق والتوجس والخوف إلى تحدٍّ ويقين وتفاؤل، وإيمانٍ عميقٍ بأن الله معهما، وأن انطلاقتهما الحقيقية نحو المجد والثراء ستكون من هنا.
وهو ما حدث، فلم يمضِ أقل من عام حتى صار بيت “القاسم” مضافة شهيرة لكل أبناء العائلة والجماعة في الرياض، وفي بضع سنوات قلائل أصبحا من أشهر تجار الأقمشة على مستوى المنطقة. وتعقبها سنوات عشر فقط ليكونا من أثرياء تلك المرحلة.
سليمان وعبدالعزيز القاسم أنموذجان لآلاف من رجال حقبة التأسيس، من الذين عانوا كثيرًا وصبروا، وفتح الله عليهم بعدها!