السياحة

سيَّاحَةٌ في جَنُوبِنَا الغَالي (7).. في بلادِ “بَلقَرْن”.. بَينَ شُهرَةِ “العَلَايَة” وعَرَاقَةِ “البَظَّاظَةِ”.. وقَريَةِ عَايضِ القرْنِيِّ “آل شِرْيِحْ”

بقلم: شوق اللهيبي

يا لهذا الوادي المُهيب!

هَتفتُ بإعجابي، وقد أتينا -ضُحىً- وادي “تبالة” في بلاد “بلقرن”، والسكونُ يملأ المكان، وما ثمَّ إلا جدول ماءٍ يمشي بذاتِ سَكونِ الوادي الطويل، فيما مُضيفنا “علي الضِعيِّف القرني” يُشيرُ إلى ضفتيِّ الوادي المتباعدتين؛ أنَّ السيلَ عندما يَهدرُ ويَنصبُّ من جبال “الهدارة”، فإنَّ الوادي يَفيضُ إلى أعلى ضفتيه، دلالةً على ضخامة السيلِ الذي يَصبُّ في مآله إلى وادي “بيشة” الشهير.

أنا الآن في بلاد “بلقرن”، وأزعمُ أنَّ الكثيرين ممن لم يأتوا جنوبَنا الغالي؛ لا يُميِّزون تنوُّعَ أهلِ هاته الديار الجبلية إلا من خلال أصدقائهم الذين يحملون لقبَ قبائلهم، أو من خلال الرموز الشهيرة لتلكم المناطق، وأزعمُ -ثانيةً- أنَّ أوَّلَ اسمٍ ارتسمَ أمامكم عند ذكر “بلقرن”، هو الداعية الأشهرُ عايض القرني، الذي طبَّقت شُهرته الآفاق.

ولأنَّ بلاد “بلقرن” لا تقع مباشرة في الخطِّ الرئيسِ للجنوب الذي يذهبُ بك إلى أبها البهيَّة، فلربما أيضًا كان ذلك سببًا لعدمِ معرفة الكثيرين لها، كمعرفتنا ل”الباحة” و”بلجرشي” و”النماص”، ذلك أنك تحتاج لأنْ تتجهَ شرقًا لتصلَ إليها، فهي منخفضةٌ قليلًا عن تلكم السرواتِ العالية.

اتجهنا -صبيحةَ ذلك اليوم- من “بلجرشي” إلى منزل مُستضيفنا، أبو عبدالله، الشيخ علي الضعيِّف القرني في البلدة الوادعة “البَظَّاظة”، وأجزمُ هنا أنَّ كثيرين ربما يَسمعون لأول مرَّةٍ بها، لأنَّ جارتها “سبت العلاية” أخذتْ صيتًا أكبرَ منها وشهرةً لوجود المباني الحكومية فيها.

أتيتُ “البظاظة” العامَ الفارط، وأتذكَّرُ أنني حِرْتُ أيَّما حَيرَةٍ في اسمها اللافتِ الرنَّان، وانصرف الذهنُ الكليلُ إلى أنَّها اشتقاقٌ من “البَضَّة” وهي ما تُوصفُ بها المرأةُ الرقيقةُ النضرةٌ المكتنزةُ اللحم ذاتُ اللون، والتي جاءت في بيت عمر بن أبي ربيعة الشهير، وهو يصف حبيبته:

مَحْطوطَةَ المَتْنَيْنِ أُكْمِلَ خَلْقُها

مِثْلَ السَّبِيكَةِ بَضَّةً مِعْطارا

خمَّنتُ ذلك، وصرفتُهُ على هذا الوَجهِ، بَيدَ أنَّه استرابني الأمرُ لاحقًا، وأنا مَنْ تَخصُّصهُ الريَّاضياتُ لا اللغة؛ فهُرعتُ واستفزعتُ باللغويِّ الضليعِ أ.د. سعيد القرني، الأكاديمي في قسم اللغة العربية بجامعة أم القرى، وهو خَالُ مُضيفنا علي القرني، وابن “البظاظة”، فأكرمني بهذه الرسالةِ الأخويَّةِ، التي تنمُّ عن كرَمٍ مُتأصِّلٍ، وأخوَّةٍ سَابغةٍ، ومَحبَّةٍ عَميقةٍ:

“أبا أسامة: تمرّونَ الدِّيارَ ولم تُعوِّجُوا! الدَّارُ دَارُكم والمَدَارُ مَداركُم؛ فأنتم مِنَّا بمنزلَةِ الرُّوحِ من الجَسَدِ أخي الحبيب!

وجزى الله أبا عبدالله -علي الضعيِّف- عنّا أجمعين خيرًا.

عسى أنْ يَجمعنا بكم جَامعٌ فيها؛ لنُضيفَ لما أضافَ حبيبنا أبو عبدالله لكم قِرىً وقرية!

(البظَّاظة) عَلمٌ منقولٌ عن فعّالةٍ، مُبالغةٌ في اسم الفاعل، فاعلةُ (باظّة)؛ لكثرةِ سَيلانِ مَائِها؛ مِنْ بَظّ الماءُ إذا سال.

ولعلَّ مُسمِّيها؛ رَاعى تلك الصِّفة فيها عند التّسمية؛ فقد كان واديها خصِيبًا، وغطاؤُها النَّباتيّ وافرًا!

وفيها لُغتانِ: بالظّاءِ والضَّادِ معًا.

وعلى الثّانيةِ تجري البَضَّاضة التي هي خُلاصة البيَاض، وهو وَجهٌ من وُجوهِ دَلالةِ المكان؛ ففي أعلى واديها وادي (تبالة) حجرُ المِلحِ الأبيضِ، من باب تسمية الشّيء بجزئه”.أ.هـ

ذهبتُ بكم بعيدًا، وأنتم مَنْ تَنشدونَ قِصصَ الرحلة، وكالعادة دعانا مُضيفنا -بعد شربِ القهوةِ السعودية- إلى ما يُسمونهُ أهلُ الجنوب “اللَّطَفْ”، وهي ك”التَصبِيرَةِ” عند أهل الحجاز، وسُمَّيتْ كذلك لأنها تُلطِّف الجُوعَ أي تُخفِّفهُ، حتى يحينُ موعدُ الوجبةِ الرئيسة، فكانت تلك “العريكة” و”المشغوثة” أمامنا، وقد اختلفتا على ما أكرمنا به في الزيارة الماضية، إذ قامت -وقتذاك- ابنتا مُضيفِنا الغاليتان “إيمان ووجدان” مع والدتهما أم عبدالله، أختنا الداعية “عائشة آل جروان” بإعدادِ ألذِّ ما ذُقتُ في كُلِّ حياتي من “المشغوثة” و”المبثوثة” و”العريكة” و”العصيدة”، بما بقيَ طعمُها الأروعُ -ورفقتي- في أفواهنا ليومنا هذا، وقد أعدَدنهُ بطريقةٍ مُذهلة، تذوبُ في الفم ذوبًا، وبنكهة سحريَّةٍ خالصَةٍ، إذْ كانت مُدَخَنَة، بما تصنعُ الأمَّهاتُ الأوائلُ في الحجاز طبقَ الفولِ في شهرِ رمضانَ بالجَمْرِ، الذي يُعطي الفولَ نكهةً وأيَّة نكهة!

لا أدري؟ أأخذت أختنا أم عبدالله -وابنتيها- تلك الطريقة من نساء مكة، واقتبستهُنَّ من مَعيشتهنَّ في البلد الحرام؟ أم كان ذلك خاصًّا في أهل “البظاظة” فقط!

ما أعرفه أنَّ حاليَ وقتذاك -والرفقة- مُضحكةٌ، إذ انهلنا ك”مفاجيع” على تلكم الأطعمة الجنوبية، فنشبعَ ونعودَ القهقرى بظهورنا، وترى بعضَنا مُتربِّعًا، فيما البقيَّةُ يجلسونَ القرفصاء، مُنهمكين بالحديث مع مُضيفنا، ولا ندري عن أنفسنا إلا ونحن نتقدمُ رُويدًا رُويدًا، ونصيبُ من تلك القصَعَاتِ التي أمامنا لا شعوريًّا، حتى “بَشِمنَا” بما نقوله في عاميَّتنا، وأعدنا لمَعانَ قيعانِ القصَعَاتِ من تناولنا تلك الأطعمة الثقيلة.

تجوَّلَ بنا مُضيفنا علي الضعيِّف، في قريته التي باتت بلدةً اليوم، وبدأتْ تتهاطلُ الذكرياتُ عليه، وهو يحدثنا عن البيوت القديمة، ونحن نمرُقُ -راجلين- من خلال أطلالها، التي أعمارُ بعضها المائتين أو الثلاثمائة عام، وكيف كان “الحَلالُ” من الخرفان والبقر، تسكن معهم في ذات البيت، ويدخلُ بنا لغُرفاتٍ مُظلمةٍ غايةٍ في الصِّغر، بتلكم البيوت الطينيَّة التي سُقفها من جُذوعِ وسيقانِ الشجر.

من أبرز رجالات “البظاظة” الشيخ عبد الرحمن عوض بن صيفي شيخ شمل قبائل دحيم، وهناك الشيخ عوض بن محمد القرني رئيس كتابة عدل جدة الأسبق، والمهندس عبدالله محمد القرني أمين مدينة جازان، واللواء سعد عبدالله آل رحمة قائد القوات الخاصة البحرية، وغيرهم من الرموز الوطنية التي نفخر بها.

بعد استرواحنا، وأخذ القيلولة؛ طلبنا من مُضيفنا وحَلفنَا عليه أن يُعفيَنا من الغداء، وقد شعرنا بالشبعِ الكاملِ ذلك اليوم، وكأنَّ “صَبَّة” من خرسانةٍ في مِعَدِنَا، للدرجة التي رَجوناهُ ثانيةً أن يأتي بالفاكهة فقط كعشاء، من دسامةِ وثقلِ تلك الوجبة الشهيَّة، وأيم الله ليس اسمها “اللَّطف” التي يتصبَّرونَ بها، بل وجبةُ يومٍ وليلةٍ كاملتين تامتين، وانفلتَ بنا عصر ذيَّاكَ اليوم إلى حَاضرة “بلقرن” مدينة “سَبْت العَلَاية”.

عادت بي الذاكرة إلى زيارتي لهاته المدينة قبل 12 عامًا مع أبنائي، ومررنا على الصديق العزيز المحامي محمد سعد القرني، وكنا زملاءَ سَكنٍ في الجامعة بالثمانينيات الميلادية، وشتَّان بين العلاية إذّاك، وما رأيناهُ اليوم من تطوُّرٍ واتساعٍ.

اتجه -أبو عبدالله- بنا فورًا إلى قلبِ المدينةِ القديمة، الذي تحوَّل لما يُشبه المتحف المفتوح، وأسموه القرية التراثية، التي لم نصلها إلا بعد عبورنا شارعًا ضيقًا، تمنيتُ أن تُزال أبنيته ويتَّسِعُ المدخل.

الحقيقة أننا انبهرنا أيَّما انبهَارٍ، وحَمَدنا صنعَ الأبناءِ الأوفياءِ ل”سبت العلاية”، وقد انطلقتِ الفكرةُ من بعضهم، وتكاتفوا جميعًا، وأنجزوا بجهدٍ فرديٍّ ما نراه، وجاءنا الأستاذ محمد بن عايض القرني، يُحدثنا عن “القرية التراثية” المفخرة، وكيف أتت الفكرة، التي أحبُّ سردَها هنا، كي يُبادرَ أبناءُ كلِّ منطقةٍ بالاقتداء بما فعله هؤلاء الشباب تجاه قريتهم الأم.

حدثنا الأستاذ محمد أنَّ هذه المنطقة التي نراها بهذا الشكل التراثي المُرتَّب؛ كانتْ مَرمى نفاياتٍ -قبل ثلاثِ سنواتٍ فقط- وموطنَ كلابٍ ضالةٍ، ووكرٍ لبعضِ المتسللين والمخالفين لنظام الإقامة، والذين يقومون بأعمالٍ مخالفةٍ للقانون، وأنَّه أثناءَ فترة حظر “كورونا”؛ انبعثتِ الروائحُ الكريهةُ بفعلِ مَوتِ بعضِ الحيوانات التي لم تجدْ ما تَقُوت، وانقدحتِ الفكرةُ برأسه، بتحويل هاته الخراباتِ إلى قريةٍ تراثيةٍ، سيَّما أنَّ جيله وُلدَ فيها ودَرَس، وتعاضدَ معه بعضُ زملائه من أسنانه، وتحمَّسوا للفكرة.

عندما عرضوا مشروعهم على وجهاءِ البلدة؛ وقف ضدَّها مجموعةٌ من كبارِ السنِّ -كعادةٍ في كلِّ الأزمنة والأمكنة- بينما سَكتَ البعضُ محايدًا، ووجدوا التأييدَ من البعضِ القليل، ولم يُحبطهم ذلك، وانطلقوا في مشروعهم بأنفسهم، وبميزانيةٍ بسيطةٍ على قدرِ ما جمعوه، وجَلبوا الجرَّافاتِ وشاحناتِ النفايات التي أخذت منهم الكثير، وأعادوا ترميمَ المكان بما سيُذهلكم عند زيارتكم لها..

فكرةٌ نبيلةٌ، بهمَّةٍ قعسَاءَ لثُلَّةِ شبَابِ، أخذتهم حَميَّةٌ لموطِنِهم، ووفاءٌ لماضيهم؛ فكانت “القرية التراثية” التي يتفاخرُ بها كل أهل “سبت العلاية” اليوم، فيما أتى أولئك المعارضون لهم، يباركون ويهللون لهذا الإنجاز!

من أطرفِ ما رأينا في تلك القرية التراثية، المحكمةَ الشرعيةَ التي أنشئتْ عام 1367هـ الموافق 1947م، وبجوارها مباشرة غرفة السجن، أي لا يأخذ السجين سوى نصف دقيقة فقط للدخول مشيًا، بما ترونه في الصور المصاحبة.

ومقطعٌ آخرٌ عَجِبنَا منه، إذ كنا بغرفةِ مدير المدرسة، بعد أن ذهبنا لغرفة الدرس الوحيدة، والسبُّورة القديمة جدًا على جدارها، فألفيت حجرةً صغيرة متصلة بغرفة المدير، فضحك أخونا محمد القرني، وقال ما الذي تُخمِّنهُ أن يكون هذا المكان. أجبته -بلا تردِّدٍ- أنَّه مخزنُ كتبٍ أو ما شابه، فابتسم وقال بأن هذه الحجرة الصغيرة لزوجة المدير، حيث تُقيم هنا، وتطبخُ، وتنام مع زوجها وأبنائها! قوَّستُ حَاجبيَّ تعجبًا، ونحن نتكلم عن 75 عامًا خلت.

أنصحُ كلَّ من يزور بلاد “بلقرن” الذهابَ لهذه القرية التراثية، وأدعو رجالَ وتجار وموسري “بلقرن” الكرام، و”العلاية” بالخصوص، بدعم القائمين على “القرية التراثية” بما يليقُ باسم “بلقرن”، ولتكون واجهةً بديعةً لأمثالي من الزوَّار، الذين رأينا كيف كان يعيش أجدادُهم، وتعرَّفنا على ثقافتهم الأصيلة، وتكافلهم الاجتماعي، والقرية تحتاج أكثر وأكثر.

مدينة “سبت العلاية”، ويكتبها البعض “سبت العلايا” والأولى هي الأصح بما قيل لي، كانت قريةً قديمةً، يعودُ تأريخ إنشائها إلى أكثر من ألفِ عامٍ، وسُمِّيت القرية ب”العلاية” نسبة إلى بنائها على تلٍّ مُرتفعٍ، وسُمِّيت ب”سَبْت” نسبة إلى السوق الكبير الذي كان ينعقدُ بجانب القرية في يوم السبت من كلِّ أسبوع.

قبل أن أترك هذه القرية التراثية البديعة أخذني الأستاذ محمد القرني إلى مسجدٍ عتيقٍ هناك، اسمه مسجد “السدرة”، ويعود تأريخ بنائه إلى أكثر من 350 عامًا، ووقتما ولجته عبر بوابته الخشبية القديمة؛ دهمتني بعض الرهبة والغشية، ورُحتُ بأخيلتي بعيدًا إلى أزمنة بنائه، واشرَأبَّ عُنقي أطالعُ تلك الأخشابَ القديمةَ جدًّا، وأنزل تارة ببصري أطالع أركان المسجد العتيق، وقلتُ بنفسي: ليتَ شعري! مَن بَنوا هذا المسجد؛ أكانوا يظنون أنه سيبقى لهذا العمر الطويل؟ والأروع في ذاك المسجد، أنَّ في باحته اليُسرى مَكانٌ مَخصوصٌ لحُجَّاجِ اليَمن، يَستروحون فيه ودوابُّهم، ويبادرُ أهل القرية إلى مدِّهِم بالطعامِ والزاد كلَّ يومٍ، بحسب قدرة أولئكم الأهالي وقتذاك، حتى ينصرفوا إلى مكة، ويتهيؤون لهم عند قفولهم أيضًا بذات العطاء.. تمتمتُ في نفسي: يا له من كرم! وأسخى الناس من يُكرمٌ ويُعطي من قَتَرٍ وقلَّة.

مُضيفنا علي الضعيِّف أخذنا لمنتزه “العنب”، وأيم الله لقد فوجئنا بما لم نتوقعه ألبتة من وجودِ منتزهٍ واسعٍ وضخمٍ، مُصمَّمٍ على طرازٍ فنيٍّ رفيع، ولم نود أن نخرجَ منه لروعته، وليت مسؤولي منتزه “السحاب” الذي سخطنا عليه في أبها، يأتون هذا المنتزه البديع ليروا تصميمَه، وروعتَه، وتنوَّعَ أشجاره، والحيواناتِ التي وضعت هناك، الحقيقة أنَّه أجملُ مُنتزهٍ رأيناهُ في الجنوب كله، فلا يفوتنَّكم الذهاب له.

سأعرِّجُ هنا على بعض رموز “سبت العلاية” الكرام، فهناك معالي الفريق عبدالله محمد القرني رئيس المباحث العامة، ومعالي د.علي عبدالخالق القرني مدير مكتب التربية العربي لدول الخليج، ورائد الفضاء السعودي علي بن محمد القرني، وهناك شيخ شمل “آل مشيب سبت العلاية” عوض بن علي القرني، والداعية المفوَّه علي بن عبدالخالق القرني، وكوكبة وطنية كريمة لا يتسع المقال لذكرهم.

حرِصتُ في زيارتي لبلادِ “بلقرن” الذهابَ لقريةِ الشيخِ الصديقِ عايض القرني، فأخبرنا مُضيفنا بأنَّ اسم قريته “آل شريح”، ووالده عبدالله بن عايض آل مجدوع كان شيخ القرية، وانتقلت اليوم إلى ابنه راشد آل مجدوع شقيق الشيخ عايض، وللأسف لم أستطع زيارتها، وإلا فقد أردتُ مفاجأة الشيخ أنني بقريته التي وُلد بها، والشيخ عايض دمِثُ الخلق، مَرحُ الروحِ، ذو ذاكرةٍ قويةٍ يستحضرُ بها -مباشرة- الكثيرَ من محفوظاته التراثية والأدبية، ولا أنسى له قصيدة “الاعتزال” الرنَّانة، والتي نشرتُها له في ملحق “الرسالة” بصحيفة “المدينة”، إبَّان رئيس تحريرها الخلوق د. فهد آل عقران، ورَاجَعَته شخصياتٌ كبيرةٌ في الدولة وهاتفته، ليعودَ لي مرة أخرى بقصيدة “التراجع”.

وإن أنسى شيئًا له، فلا أنسى أبدًا، ما تورَّطتُ فيه معه، إذ “سَلْطَنَ” -بما في عامِّيتنا- في إحدى استضافاتي الفضائية له، وبدأ يتحدَّثُ بطرافةٍ وتهكُّمٍ وجدَّيةٍ وموعظةٍ، يجمعها كلها في جملةٍ واحدة، فلا تملكَ -إزاءَ ما تسمع- إلا أن تضحك، ودخلتُ في نَوبَة ضحكٍ لم أستطع أن أمسكَ نفسي، وهو -بلؤمٍ أخويٍّ- يزيدُ من حديثه ذاك، وأنا أشيرُ له أن يتوقف، وقد بلغتُ حدَّ التشنُّج من الضحك، وكان البثُّ على الهواء مباشرة، ما اضطرَّ المخرج إلى أخذِ فَاصِلٍ، وأتوا لي بكُوبِ الماء كي أهدأ وتذهبَ نوبةُ الضحك، التي ما إنْ تخمدَ حتى تعود، والشيخ لا يسكت حتى في فترة التوقف، وقد طرِبَ للأمر واستمزجَه وهو يراني بحالتي المتشنجة، وأحمدُ الله أنْ مرَّت تلك الحلقة التي أردتُ أن أجبَههُ فيها، فأصمَتني وألجمني بطريقته تلك.

طيلة فترة عملي في الإعلام على مدى ثلاثةِ عقودٍ ونصف من السنوات، هناك شخصيتان لا بدَّ لهما كلَّ عام من “طَعَّة” تروجُ في أوساط المجتمع، وتكونُ “خَبطَةً” إعلامية لنا، فالشيخ عايض أولهما، والثاني أبو نورة، فنان العرب محمد عبده، والعجيب أنهما في نهاية العاصفة؛ تزدادُ شعبيتهما وحُبُّ الناس لهما.

أدَعُ الشيخ عايض القرني، وأعود ل”البظاظة”، التي نودِّعها، ونتفاجأ -ونحن في سياراتنا- بقناني العسل الحرِّ بعددنا، أرسلتها أختنا أم عبدالله، عائشة آل جروان، وتمنَّعنا -وقد أسقِط في أيدينا- عبثًا، فقد أقسمَ مُضيفنا على أن نأخذها، ولا نردَّ زوجَه، قبلناها والخَجلُ قد أجْمَدَ وُجوهَنا، إلا ألسنتنا التي لَهجتْ بالشكرِ الخالصِ والدعاء العميم أن يخلفَ الله عليهم.

“بلقرن” شَهَامةُ رِجالٍ، وكَرَمُ أنْفُسٍ، وعَرَاقَةُ مُحتِدٍّ، وأرَومَةٌ ضَاربةٌ، ومُحافظةٌ مُتجذَّرةٌ.

زر الذهاب إلى الأعلى