فريح العقلا والعمل الذي لا ينقطع
رحم الله الشيخ فريح بن علي بن تركي العقلا (1375-1445=1956-2024م)، وجعل ما أصابه تكفيرًا ورفعة في الدرجات، وسببًا لجمع المزيد من الحسنات، وأحسن العزاء لذريته وإخوانه وآله، ولجميع أقاربه من الأسر العريقة: العقلا، والدواس، والحسين، والسالم، ولمحبيه والعاملين في مجالات الأعمال الخيرية ونفع المجتمع. والله يجعل من سيرته العملية قدوة للمحسنين والمبادرين الذي يرجون ما عند الله والدار الآخرة، ولا يأبهون بشهرة، ولا يلتفتون للمز، ولا تقعدهم العثرات عن المسير ولو بخطوة متأنية إثر أخرى، فالخيرات تجيء رويدًا رويدًا، وفي الاستعجال آفات لا تخفى.
أما إذا أردنا أن نقترب أكثر من شخصية الشيخ الراحل وسيرته، فسوف نرى شابًا في سنّ الصبوة والفتوة والنشاط، ينتقل من بلدة الهلالية بالقصيم المحافِظة الواقعة وسط الصحراء، ليستقر في مدينة جدة الساحلية المنفتحة نوعًا ما؛ هذا فيما يخصّ المكان، بينما كان الزمان في عام (1396=1976م)، أي مع بداية سنوات الطفرة، وانجفال الأكثرية ناحية جمع الأموال، وهبّة المستثمرين في العقار والمشروعات مع الحكومة وغيرها -ولا يلامون-، لكن الشاب فريح جاء إلى البوابة الطاهرة للحرم الأشرف الأقدس يسعى من مكان قصيٍّ شيئًا ما، وفي الذهن مشروعات لا تقف عند حدود الدنيا، ولا يتقاصر عنها الخيال وإن استصعبها الواقع؛ لأن الدنيا بأسرها وضخامتها لا تقوى للوقوف عائقًا أمام الهمم السامية، والنفوس الطموحة، وأسأل المولى أن يفرح اليوم وغدًا وبعده فريح بلقاء مولاه وخالقه.
فأصبح الشيخ إمامًا وخطيبًا لجامع الأمير منصور بجدة، هذا الجامع الذي حمل اسم أول وزير دفاع، وثاني الراحلين من أبناء الملك المؤسس -رحم الله الجميع-، فصنع وجوده للجامع علامة فارقة تنقله من مكان لأداء الصلاة فقط -وأنعم وأكرم بها من عبادة وركن- إلى مدينة مصغرة تحوي عددًا من الخدمات المجتمعية التي لا غنى لمجتمع عريق متآلف عنها، ولم يثنه عن مشروعه قلة المعين، وكثرة المنصرف، وربما تلميحات المخذل والمرجف، خاصة في أزمنة تبلغ القلوب بها الحناجر، وتقع الركب إلى مستوى الأقدام، ولا تخلو حياة الناس منها بين آونة وأخرى، فاللهم سلّم سلّم.
لذلك جعل الشيخ من منبر المسجد الجامع منبرًا شريفًا باسقًا للتعليم والوعظ والنفع، بعيدًا عن أي خروج بالمنبر عن صفته العلمية والوعظية والدعوية؛ فغدا الجامع مقصدًا للمصلين من جنوب جدة وغيرها. ولم يكتف صاحب الهدف الكبير المتنوع بهذا المنجز والتجديد، إذ استضاف في الجامع أكابر العلماء مثل ابن باز وابن عثيمين وغيرهما، وعقدت فيه دروس ودورات وندوات وملتقيات، وما أسناه من تاريخ وأعظمها من مفاخر حين يقول عالم أو طالب علم: تلقيت هذا الدرس في جامع الأمير منصور.
ثمّ صوّب الشيخ الموفق عنايته نحو القرآن الكريم، ولعمركم إن العز كلّ العز في القرب من كلام الرب الجليل سبحانه، وخدمته، وحفظه وتدبره، والعمل به وتحكيمه. ومن هذا الباب أصبحت حلقات جامع الأمير منصور شعلة نشاط، وتخريج، وتحفيظ، وختم، وتربية، وإن الأجيال القرآنية من الحفظة والمتقنين لتشهد لهذا الجامع بحسن العمل، وجودة المنتج، وما أكبرها من مآثر لا يدانيها شيء أو يكاد؛ خاصة حين يقول الحافظ المقرئ: أخذت القرآن وجمعته في جامع الأمير منصور.
ولا تظننّ أن الشيخ اكتفى بهذا الجانب المشيخي والتربوي على سموه وقيمته وفضائله؛ بل اتخذ من الجامع منطلقًا لمشروعات مجتمعية رائدة ومبكرة، فابتدأ بمشروع لجنة الإعانة على الزواج في جدة، وهي في المملكة والمنطقة من الجمعيات الأشهر والأقوى، ولها استمرارية لافتة، وخدمات متوالية، وقد وفق الله لمساندتها أمراء مكة ومحافظي جدة وأثريائها، ومنهم الشيخ عبدالله البراهيم السبيعي أحد أبرز الداعمين لها ماليًا.
وإن تزويج الشباب والفتيات، وتسهيل هذا الطريق الحلال لهم، وعونهم بشتى الوسائل، لمكرمة دينية عظيمة الثواب والأجور، وفضيلة مجتمعية لا تحتاج لشرح أو بيان ويكفي حمايتها للأسرة، وخدمة وطنية كبرى تقلل من العزوبة والعنوسة، وتزيد في النسل والسكان، وترفع مستوى الولاء للمكان وأهله عند الجنسين، وتحمي من شرور ومخاطر كثيرة أمنية واجتماعية واقتصادية. ولعمركم إن السائرين في هذا الدرب لأصحاب إحسان لا تعبر عنه الأحرف، ومن تأمل الكوائن الناجمة عن نقصان عدد الأسر والمواليد بالنكاح، والتدني في تعداد السكان، ليعلمن علم اليقين الجازم أيّ خير فعله أولئك الكرام، وما أسعد التاريخ عندما تقول ذرية طيبة تلو ذرية نافعة لقد تزوج آباؤنا من خلال مشروع الزواج المنبثق عن جامع الأمير منصور.
كما فتح الله على الشيخ بمشروع طبي لعلاج المرضى خاصة من الفقراء الذين لا يستطيعون دفع الأموال الطائلة للمراكز العلاجية الخاصة؛ فأصبح جامع الأمير منصور حاضنة لهذا المشروع الطيب المبارك الذي قد يتساوى في الشراكة العامة مع الماء والكلأ والنار، وما أغبطهم بهذا المشروع الذي أحيا به الله نفوسًا، وأطبّ به من علل، حتى استوى المرضى بعد الاستشفاء به قائمين يصلون، ويذكرون الله، ويتعبدون في كل ناحية، ويتزوجون وينجبون، وينفعون بلادهم وأناسهم، وهم يحملون في قلوبهم الحمد والشكر لله، ثمّ الاعتراف بالفضل والسابقة المباركة لجامع الأمير منصور، وللخيرة البررة العاملين فيه ومن خلاله، وهذا طبعًا غير مشروعات الإطعام، وتفريج الكرب، وعون الفقراء، ولا يضيع عند الله الإحسان.
ومن لافت المسائل، أن الأمير منصور بن عبدالعزيز قد توفي مبكرًا عن ثلاثة وثلاثين عامًا، تاركًا خلفه ابنًا واحدًا وابنة واحدة، لكن شاء الله أن يوفق ورثته وآله لبناء جامع يحمل اسمه، ويحيي ذكره، ويطيل عمله وعمره في صنائع المعروف، وربما خدموه بالأوقاف التي كانت أحد مجالات اهتمامات العَلَم الراحل بخير وحسن أحدوثة. وكان من عجائب القدر والموافقات، أن نهضة الجامع وأعماله وتميزها، تمت -بعد عون الله وتوفيقه- على يد رجال أعزة رحماء، منهم رجل مبارك يكتنز بين جنبيه وفي أمشاجه المكارم والفضائل، وهو الذي قدم إلى الدنيا وليدًا بعيد سنوات قليلة من رحيل الأمير منصور عن الحياة.
فيا أيها القارئ الكريم العاقل العزيز: إن هؤلاء الخيرة الكرام البررة أهل للتجلّة والتوقير والدعاء بالثبات والتوفيق في محياهم، وبالثبات والرحمة بعد مماتهم، ومنهم الشيخ فريح العقلا الذي ودع الدنيا اليوم، وسوف يصلى عليه غدًا الثلاثاء في جامع الثنيان بجدة عقب صلاة العصر ثمّ يوارى جسده الثرى، غير أن عبير سيرته، وطيب آثاره، وحميد سجاياه، وخيريته التي تعبر عن عراقة أسرته، وعراقة مجتمعه، وعراقة مؤسسات دولته، وعراقة أسرة الحكم في بلده، لرواية جميلة خالدة باقية ماثلة شاهدة لا يمحوها شيء.
وما أكثر الأخيار الفضلاء في بلادنا الطاهرة المقدسة مثله، وبهم نتباهى ونباهي، وبوجودهم نفرح، وواجب علينا نشر سيرهم وأخبارهم. وما أحراهم بالمحبة والعون، وما أجدرنا بالمسارعة نحوهم بالمساندة والتسديد، ولندع خلفنا ودبر الآذان أيَّ قائل فاه بقولة سوء وقالة منكر، ولنعرض عمن قطّب جبينه ورمز حاجبيه إذا ذكرنا أولئك النبلاء الصلحاء؛ فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والهوان والذلة مكتوبة على غيرهم من البشر، وما أسعد البلاد السعودية برجالاتها المباركين من حكام، وعلماء، وأثرياء، وكتّاب، وعاملين، وصالحين، وما أسعدها بما تقدمه للناس وللتاريخ من نماذج وقدوات.